السُنة النبوية هي الأصل أو المصدر أو المرجع الثاني للتشريع الإسلامي بعد كتاب الله تعالى، تشرح آياته وتبيّـن كلياته وتفصّل مجمله وتوضح مشكله وتقيد مطلقه وتخصص عامه مصداقاً لقوله تعالى "وأنزلنا إليك الذكر لتبيّـن للناس ما نزّل عليهم ولعلهم يتقون". كما أن السُنة النبوية تستقل بإضافة وإنشاء أحكام جديدة لم ترد في القرآن الكريم. للسنة النبوية الأثر الأكبر - بعد كتاب الله تعالى - في صياغة أفكار المسلمين وتصوراتهم وفي توجيه سلوكهم العملي في حياتهم وفي تهذيب نفوسهم والارتقاء بوجدانهم، يهتدي بها المسلمون في كل شؤون حياتهم، لقوله صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي". اعتنى المسلمون بالسنة النبوية عناية عظيمة، وحرصوا عليها كحرصهم على القرآن الكريم يحفظونها، ويتداولونها وينقلونها من جيل إلى جيل، حتى قدر الله لسنة نبيه أن تُجمع وتُدون كما جمع ودون القرآن من قبل، فسخر الله لهذه المهمة الجليلة رجالاً، أوتوا صبراً وجلداً وبصيرة نافذة وقوة في الذاكرة وهؤلاء - جزاهم الله خير الجزاء - استفرغوا طاقاتهم وأفنوا أعمارهم في خدمة سنة نبيهم فطلبوها من كافة مظانها، وبلغوها للناس كافة، وتمت عمليات الجمع والتدوين ثم الفرز والتقييم على مرحلتين: الأولى: الجمع والتدوين: بالسعي الحثيث لطلب الحديث من كافة مصادره ومظانه وأمصاره وتحمل مشاق الترحال في طلبه، إذ كان الحديث يتداول شفاهة عبر الأمصار الإسلامية ويتناقل سماعاً عبر الأجيال على امتداد (150) عاماً. كانت حصيلة الجمع والتدوين، مئات الألوف من المرويات والآثار والأسانيد المختلفة فقد جمع الإمام (مالك ت 179 هـ) 100 ألف حديث، وضع منها في "الموّطأ" 10 آلاف حديث ثم لم يزل يفرزها حتى وصل 1720 حديثاً مسنداً ومرسلاً وموقوفاً ومقطوعاً، وجمع الإمام (أحمد ت 241 هـ 700 ألف حديث ولكنه وضع في مسنده 30 ألف حديث فقط، وجمع الإمام (البخاري ت 256 هـ) 600 ألف حديث ولم يثبت عنده في صحيحه غير 2761 حديثاً وجاء بعده الإمام (مسلم ت 261 هـ) فجمع 300 ألف حديث ولم يصح عنده في صحيحه إلا 12 ألف حديث وجمع أبو داود 500 ألف لم يصح عنده غير 4800 حديث. الثانية: الفرز والتقييم؛ وضع علماء الحديث معايير علمية دقيقة للحكم على الحديث وتقييمه وبيان درجته من الصحة والضعف، وهي قسمان: 1- معايير متعلقة بالإسناد أي بسلسلة الرواة، أي دراسة السيرة الشخصية للراوي من حيث عدالته وصدقه وضبطه وحفظه. 2- معايير متعلقة بالمتن من حيث سلامته من العلة القادمة، وهذا ما يسمى في المفهوم المعاصر بـ "النقد الداخلي" للنص، إذ لا تكفي صحة السند حتى يعبر الحديث قنطرة الصحة والسلامة، بل لابد أن يكون المتن مقبولاً - أيضاً - بأن لا يخالف أمراً محسوساً أو مشاهداً أو علماً مقطوعاً أو يناقض المنطق السليم أو يتعارض مع النص القرآني الصريح أو حقيقة تاريخية أو قاعدة أخلاقية أو سنة متواترة أو الإجماع أو ينفرد الواحد برواية ما يجب على الكافة علمه، وما أجمل قول ابن الجوزي: "إذا رأيت الحديث يباين المعقول أو يخالف المنقول أو يناقض الأصول فاعلم أنه موضوع" بذل الأئمة الأعلام جهوداً مضنية في تطبيق هذه المعايير الدقيقة على آلاف المرويات والأسانيد، والمؤلفات في هذا الميدان لا تسعها مكتبات ضخمة وقد برز بينهم مشاهير الجهابذة النقاد ولقب بعضهم بـ "الحافظ" و"أمير المؤمنين في الحديث" لكن الملاحظة العامة أن معظم الجهود انصبت على نقد السند بأكثر من نقد المتن، وليس معنى ذلك أن نقد المتن كان مفقوداً لكنه لم يكن مفعلاً على نطاق واسع مقارنة بنقد السند، وهذا ما أشارت إليه معظم المؤلفات الحديثية المعاصرة، بدءاً بمجلة "المنار" للشيخ رشيد رضا، مروراً بكتب أحمد أمين وأبي ريّه وإسماعيل منصور وجمال البنا وغيرهم إلى "السنة النبوية" للشيخ الغزالي الذي أثار جدلاً واسعاً، وتصدى للرد عليه (14) كتاباً وعشرات المقالات، ويتصل بموضوعنا، كتاب عظيم الشأن، وقع في يدي في هذه الأيام المباركة من الشهر الفضيل وأود تحفيز القراء للاطلاع عليه، وهو للأستاذ إسماعيل الكردي، بعنوان "نحو تفعيل قواعد متن الحديث" طبعته دار الأوائل بدمشق 2008، الكتاب دراسة تطبيقية رائعة على بعض أحاديث الصحيحين (البخاري ومسلم) رحمهما الله تعالى، في المقدمة يعبر المؤلف عن بالغ تقديره لجهود الإمامين الجليلين ويوضح أن تطبيق معايير النقد الداخلي على بعض مروريات الصحيحين، لا يمس مكانتهما العالية ولا يقلل من شأنهما، منهما الكتابان الصحيحان المسندان بعد كتاب الله وقد تلقتهما الأمة بالقبول، ولكن عمل ابن آدم لا يكمل، والعصمة لا تكون إلا لكتاب الله عز وجل وحده، يؤكد المؤلف أن هدفه من تفعيل قواعد نقد متن الحديث، في أن "متن النصوص وليس السند هو الذي صنع فقهنا وتشريعنا وتراثنا الديني والفكري والاجتماعي والسياسي، وهو الذي أوجد المذاهب والفرق" وفي الفصول الأولى يؤكد المؤلف حجية الحديث النبوي ويرد على من يقولون: القرآن وكفى، بالعديد من الأدلة ويوضح أن الوحي لم يكن مقصوراً على القرآن وحده بل شمل - أيضاً - كلام الرسول وتعاليمه، في الكتاب العديد من المواضيع والقضايا التي تحتاج إلى دراسة ومناقشة، ولن يتسع المقال لها، ولكني أعرض قضيتين مهمتين: الأولى: هل الصحيحان مقدسان ولا يجوز نقدهما؟ يقول المؤلف: أبى الله العصمة إلا لكتابه، إذ لا يوجد على وجه الدنيا كتاب معصوم كله عن الخطأ سوى القرآن الكريم، أما صحيحا البخاري ومسلم فهما من أصح كتب الحديث سنداً، إلا أن هذا لا يعني أبداً أن كل متونهما صحيح في ذاته بالضرورة، فهناك أحاديث متعارضة سواء بين البخاري ومسلم أو في الكتاب الواحد نفسه منهما، وهناك متون انتقدها كبار الحفاظ المعاصرين للإمامين وكذلك أئمة المذاهب الإسلامية، وهناك أحاديث موقوفة على الصحابة تعبر عن أفهامهم واجتهاداتهم، وينقل عن الحافظ ابن حجر أن عدد الأحاديث المنتقدة على الصحيحين 220 حديثاً، ويذكر نماذج لأحاديث انتقد محدثون حفاظ متونها، منها: 1- حديث خلق الله التربة يوم السبت، والذي يذكر أن خلق السموات والأرض استغرق أسبوعاً خلافاً لما جاء في القرآن، 2- حديث قيام يهودي بسحر الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رده كثير من العلماء، وهو يعارض "والله يعصِمُك من الناس" 3- حديث لطم النبي موسى عين ملك الموت، ففقأها وهو يفيد أن موسى يكره الموت ولقاء الله وهو مرفوض بالنسبة للصالحين 4- حديث الصلاة تقطعها المرأة والحمار والكلب الأسود 5- حديث الإغارة على بني المصطلق وهم غارون - أي باغتهم ومن غير أن يعرض عليهم الدعوة - وهذا مخالف لسيرة الرسول في أنه لا حرب إلا بعد دعوة وإعذار. الثانية: هل أحاديث الآحاد في الصحيحين تفيد اليقين؟ يقول المؤلف إن قصد المحدثين من عبارتهم "الصحيحان أصح الكتب بعد القرآن" الصحة النسبية بحسب الظاهر، استناداً لصحة الأسانيد ولم يقصدوا أن كل لفظة فيهما وحي معصوم، والغالبية العظمى من الأحاديث المروية في كتب الحديث ومنها الصحيحان أحاديث آحاد، وقد قرر فقهاء الأمة وعلماء الأصول أن خبر الآحاد ولو كان صحيحاً لا يفيد وحده أكثر من غلبة الظن بصدوره عن النبي وهو حجة يلزم العمل به لكنه لا يفيد اليقين، الكتاب ممتع وحافل بالقضايا الشيقة.